فصل: كِتَابُ الْأَيْمَانِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.كِتَابُ الْأَيْمَانِ:

الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْيَمِينِ وَفِي بَيَانِ رُكْنِ كُلِّ نَوْعٍ وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وَفِي بَيَانِ حُكْمِهِ وَفِي بَيَانِ أَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ أَوْ الْمُسْتَحْلِفِ أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالْيَمِينُ فِي الْقِسْمَةِ الْأُولَى يَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ: يَمِينٌ بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْقَسَمِ فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ، وَيَمِينٌ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ أَصْحَابُ الظَّاهِرِ هِيَ قِسْمٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا الْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِهَا مَجَازًا، حَتَّى إنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَحْلِفُ فَحَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ يَحْنَثُ، وَعِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لَا يَحْنَثُ.
وَجْهُ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ وَلِهَذَا كَانَتْ عَادَةُ الْعَرَبِ الْقَسَمَ بِمَا جَلَّ قَدْرُهُ وَعَظُمَ خَطَرُهُ وَكَثُرَ نَفْعُهُ عِنْدَ الْخَلْقِ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَالْمُسْتَحِقُّ لِلتَّعْظِيمِ بِهَذَا النَّوْعِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ التَّعْظِيمَ بِهَذَا النَّوْعِ عِبَادَةٌ وَلَا تَجُوزُ الْعِبَادَةُ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى.
وَلَنَا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ وَاسْتَثْنَى فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ» سَمَّاهُ حَلِفًا، وَالْحَلِفُ وَالْيَمِينُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ الْوَاقِعَةِ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ، وَالْأَصْلُ فِي إطْلَاقِ الِاسْمِ هُوَ الْحَقِيقَةُ فَدَلَّ أَنَّ الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ يَمِينٌ حَقِيقَةً.
وَكَذَا مَأْخَذُ الِاسْمِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا أُخِذَتْ مِنْ الْقُوَّةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} أَيْ بِالْقُوَّةِ وَمِنْهُ سُمِّيَتْ الْيَدُ الْيَمِينُ يَمِينًا لِفَضْلِ قُوَّتِهَا عَلَى الشِّمَالِ عَادَةً.
قَالَ الشَّاعِرُ: رَأَيْت عَرَابَةَ الْأَوْسِيَّ يَسْمُو إلَى الْخَيْرَاتِ مُنْقَطِعَ الْقَرِينِ إذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ أَيْ بِالْقُوَّةِ، وَمَعْنَى الْقُوَّةِ يُوجَدُ فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ أَنَّ الْحَالِفَ يَتَقَوَّى بِهَا عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْمَرْهُوبِ وَعَلَى التَّحْصِيلِ فِي الْمَرْغُوبِ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا دَعَاهُ طَبْعُهُ إلَى فِعْلٍ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ اللَّذَّةِ الْحَاضِرَةِ فَعَقْلُهُ يَزْجُرُهُ عَنْهُ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْعَاقِبَةِ الْوَخِيمَةِ، وَرُبَّمَا لَا يُقَاوِمُ طَبْعَهُ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَتَقَوَّى عَلَى الْجَرْيِ عَلَى مُوجَبِ الْعَقْلِ فَيَحْلِفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى لِمَا عُرِفَ مِنْ قُبْحِ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَكَذَا إذَا دَعَاهُ عَقْلُهُ إلَى فِعْلٍ تَحْسُنُ عَاقِبَتُهُ وَطَبْعُهُ يَسْتَثْقِلُ ذَلِكَ فَيَمْنَعُهُ عَنْهُ فَيَحْتَاجُ إلَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لِيَتَقَوَّى بِهَا عَلَى التَّحْصِيلِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لِأَنَّ الْحَالِفَ يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ تَحْصِيلِ الشَّرْطِ خَوْفًا مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ الَّذِي هُوَ مُسْتَثْقَلٌ عَلَى طَبْعِهِ فَثَبَتَ أَنَّ مَعْنَى الْيَمِينِ يُوجَدُ فِي النَّوْعَيْنِ فَلَا مَعْنَى لِلْفَصْلِ بَيْنَ نَوْعٍ وَنَوْعٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مُحَمَّدًا سَمَّى الْحَلِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي أَبْوَابِ الْأَيْمَانِ مِنْ الْأَصْلِ وَالْجَامِعِ يَمِينًا، وَقَوْلُهُ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ.
ثُمَّ.
الْيَمِينُ- بِاَللَّهِ- تَعَالَى مُنْقَسِمٌ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ يَمِينُ الْغَمُوسِ وَيَمِينُ اللَّغْوِ وَيَمِينٌ مَعْقُودَةٌ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَيْمَانِ مِنْ الْأَصْلِ وَقَالَ: الْأَيْمَانُ ثَلَاثَةٌ يَمِينٌ مُكَفَّرَةٌ وَيَمِينٌ لَا تُكَفَّرُ وَيَمِينٌ نَرْجُو أَنْ لَا يُؤَاخِذَ اللَّهُ بِهَا صَاحِبَهَا، وَفَسَّرَ الثَّالِثَةَ بِيَمِينِ اللَّغْوِ وَإِنَّمَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ بِقَوْلِهِ: الْأَيْمَانُ ثَلَاثٌ الْأَيْمَانَ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا جِنْسَ الْأَيْمَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَثِيرٌ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ أَخْبَرَ مُحَمَّدٌ عَنْ انْتِفَاءِ الْمُؤَاخَذَةِ بِلَغْوِ الْيَمِينِ بِلَفْظَةِ التَّرَجِّي وَانْتِفَاءُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْيَمِينِ مَقْطُوعٌ بِهِ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَهُوَ قَوْلُهُ- عَزَّ وَجَلَّ- {لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ يَمِينَ اللَّغْوِ هِيَ الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ لَكِنْ لَا عَنْ قَصْدٍ بَلْ خَطَأً أَوْ غَلَطًا عَلَى مَا نَذْكُرُ تَفْسِيرَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالتَّحَرُّزُ عَنْ فِعْلِهِ مُمْكِنٌ فِي الْجُمْلَةِ وَحِفْظُ النَّفْسِ عَنْهُ مَقْدُورٌ فَكَانَ جَائِزَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفَعَ الْمُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِ رَحْمَةً وَفَضْلًا وَلِهَذَا يَجِبُ الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ عَنْ فِعْلِ الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ كَذَلِكَ فَذَكَرَ مُحَمَّدٌ لَفْظَ الرَّجَاءِ لِيُعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَفَضَّلَ بِرَفْعِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي هَذَا النَّوْعِ بَعْدَمَا كَانَ جَائِزَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُنْتَفِيَةً عَنْ هَذَا النَّوْعِ قَطْعًا لَكِنَّ الْعِلْمَ بِمُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ اللَّغْوِ الْمَذْكُورِ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ بَلْ هُوَ مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ عَلَى مَا نَذْكُرُ- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى-.
وَالْعِلْمُ الْحَاصِلُ عَنْ اجْتِهَادٍ عِلْمُ غَالِبِ الرَّأْيِ وَأَكْثَرِ الظَّنِّ لَا عِلْمُ الْقَطْعِ فَاسْتَعْمَلَ مُحَمَّدٌ لَفْظَةَ الرَّجَاءِ لِاحْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ اللَّغْوِ الْمَذْكُورِ مَا أَفْضَى إلَيْهِ اجْتِهَادُ مُحَمَّدٍ فَكَانَ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الرَّجَاءِ فِي مَوْضِعِهِ.
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ وَقَالَ: الْيَمِينُ عَلَى ضَرْبَيْنِ مَاضٍ وَمُسْتَقْبَلٍ وَهَذِهِ الْقِسْمَةُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا أَنْ تَكُونَ مُحِيطَةً بِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْمَقْسُومِ بِهِ وَلَمْ يُوجَدْ بِخُرُوجِ الْحَالِ عَنْهَا وَأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي يَمِينِ الْغَمُوسِ وَيَمِينِ اللَّغْوِ عَلَى مَا نَذْكُرُ تَفْسِيرَهُمَا فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ نَاقِصَةً وَالنُّقْصَانُ فِي الْقِسْمَةِ مِنْ عُيُوبِ الْقِسْمَةِ كَالزِّيَادَةِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ الصَّحِيحَةُ مَا ذَكَرْنَا لِوُقُوعِهَا حَاصِرَةً جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْمَقْسُومِ بِحَيْثُ لَا يَشِذُّ عَنْهَا جُزْءٌ وَكَذَا مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ صَحِيحٌ إلَّا أَنَّهُ بَيَّنَ كُلَّ نَوْعٍ بِنَفْسِهِ وَحُكْمِهِ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَنَحْنُ أَخَّرْنَا بَيَانَ الْحُكْمِ عَنْ بَيَانِ النَّوْعِ سَوْقًا لِلْكَلَامِ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي ضَمَّنَّاهُ.
أَمَّا يَمِينُ الْغَمُوسِ فَهِيَ الْكَاذِبَةُ قَصْدًا فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ عَلَى النَّفْيِ أَوْ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَهِيَ الْخَبَرُ عَنْ الْمَاضِي أَوْ الْحَالِ فِعْلًا أَوْ تَرْكًا مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ فِي ذَلِكَ مَقْرُونًا بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ فَعَلَهُ، أَوْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ لَقَدْ فَعَلْتُ كَذَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ، أَوْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ مَا لِهَذَا عَلَيَّ دَيْنٌ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنًا فَهَذَا تَفْسِيرُ يَمِينِ الْغَمُوسِ.
وَأَمَّا يَمِينُ اللَّغْوِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِهَا، قَالَ أَصْحَابُنَا: هِيَ الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ خَطَأً أَوْ غَلَطًا فِي الْمَاضِي أَوْ فِي الْحَالِ وَهِيَ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ الْمَاضِي أَوْ عَنْ الْحَالِ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْمَخْبَرَ بِهِ كَمَا أَخْبَرَ وَهُوَ بِخِلَافِهِ فِي النَّفْيِ أَوْ فِي الْإِثْبَاتِ، نَحْوُ قَوْلِهِ: وَاَللَّهِ مَا كَلَّمْتُ زَيْدًا وَفِي ظَنِّهِ أَنَّهُ لَمْ يُكَلِّمْهُ، أَوْ وَاَللَّهِ لَقَدْ كَلَّمْتُ زَيْدًا وَفِي ظَنِّهِ أَنَّهُ كَلَّمَهُ وَهُوَ بِخِلَافِهِ أَوْ قَالَ: وَاَللَّهِ إنَّ هَذَا الْجَائِيَ لَزَيْدٌ، إنَّ هَذَا الطَّائِرَ لَغُرَابٌ وَفِي ظَنِّهِ أَنَّهُ كَذَلِكَ ثُمَّ تَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ: اللَّغْوُ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ عَلَى الشَّيْءِ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ حَقٌّ وَلَيْسَ بِحَقٍّ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَمِينُ اللَّغْوِ هِيَ الْيَمِينُ الَّتِي لَا يَقْصِدُهَا الْحَالِفُ وَهُوَ مَا يَجْرِي عَلَى أَلْسُنِ النَّاسِ فِي كَلَامِهِمْ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الْيَمِينِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَا وَاَللَّهِ، وَبَلَى وَاَللَّهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي الْمَاضِي أَوْ الْحَالِ أَوْ الْمُسْتَقْبَلِ.
وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلَا لَغْوَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَلْ الْيَمِينُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَمِينٌ مَعْقُودَةٌ وَفِيهَا الْكَفَّارَةُ إذَا حَنِثَ، قَصَدَ الْيَمِينَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ وَإِنَّمَا اللَّغْوُ فِي الْمَاضِي وَالْحَالِ فَقَطْ، وَمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ عَلَى إثْرِ حِكَايَتِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ اللَّغْوَ مَا يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِمْ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ فَذَلِكَ مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى الْمَاضِي أَوْ الْحَالِ وَعِنْدَنَا ذَلِكَ لَغْوٌ فَيَرْجِعُ حَاصِلُ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ فِي يَمِينٍ لَا يَقْصِدُهَا الْحَالِفُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عِنْدَنَا لَيْسَ بِلَغْوٍ وَفِيهَا الْكَفَّارَةُ وَعِنْدَهُ هِيَ لَغْوٌ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَمِينُ اللَّغْوِ هِيَ الْيَمِينُ عَلَى الْمَعَاصِي نَحْوُ أَنْ يَقُولَ وَاَللَّهِ لَا أُصَلِّي صَلَاةَ الظَّهْرِ وَلَا أَصُومُ صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ أَوْ لَا أُكَلِّمُ أَبَوَيَّ أَوْ يَقُولَ وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ أَوْ لَأَزْنِيَنَّ أَوْ لَأَقْتُلَنَّ فُلَانًا.
ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ إذَا حَنِثَ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُوجِبُ.
وَجْهُ قَوْلِ هَؤُلَاءِ أَنَّ اللَّغْوَ هُوَ الْإِثْمُ فِي اللُّغَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} أَيْ كَلَامًا فِيهِ إثْمٌ، فَقَالُوا: إنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى- {لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} أَيْ لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِالْإِثْمِ فِي أَيْمَانِكُمْ عَلَى الْمَعَاصِي بِنَقْضِهَا وَالْحِنْثِ فِيهَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ قَوْلَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} صِلَةَ قَوْلِهِ- عَزَّ وَجَلَّ- {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ}.
وَقِيلَ فِي الْقِصَّةِ إنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَحْلِفُ أَنْ لَا يَصْنَعَ الْمَعْرُوفَ وَلَا يَبَرَّ وَلَا يَصِلَ أَقْرِبَاءَهُ وَلَا يُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ فَإِذَا أُمِرَ بِذَلِكَ يَتَعَلَّلُ وَيَقُولُ إنِّي حَلَفْتُ عَلَى ذَلِكَ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ- سُبْحَانَهُ- {لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} الْآيَةَ لِأَنَّهُ لَا مَأْثَمَ عَلَيْهِمْ بِنَقْضِ ذَلِكَ الْيَمِينِ وَتَحْنِيثِ النَّفْسِ فِيهَا وَإِنَّ الْمُؤَاخَذَةَ بِالْإِثْمِ فِيهَا بِحِفْظِهَا وَالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ} ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَكَفَّارَتُهُ إلَى قَوْلِهِ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ} أَيْ حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُوجِبْ فِيهَا الْكَفَّارَةَ أَصْلًا لِمَا نَذْكُرُ- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- فِي بَيَانِ حُكْمِ الْيَمِينِ.
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنْ يَمِينِ اللَّغْوِ فَقَالَتْ: هِيَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ فِي كَلَامِهِ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ وَعَنْ عَطَاءٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ يَمِينِ اللَّغْوِ فَقَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هُوَ كَلَامُ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ» فَثَبَتَ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا أَنَّ تَفْسِيرَ يَمِينِ اللَّغْوِ مَا قُلْنَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ فَكَانَ لَغْوًا عَلَى كُلِّ حَالٍ إذَا لَمْ يَقْصِدْهُ الْحَالِفُ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَابَلَ يَمِينَ اللَّغْوِ بِالْيَمِينِ الْمَكْسُوبَةِ بِالْقَلْبِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وَالْمَكْسُوبَةُ هِيَ الْمَقْصُودَةُ فَكَانَ غَيْرُ الْمَقْصُودَةِ دَاخِلًا فِي قَسَمِ اللَّغْوِ تَحْقِيقًا لِلْمُقَابَلَةِ.
(وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى- {لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ} قَابَلَ يَمِينَ اللَّغْوِ بِالْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمُؤَاخَذَةِ وَنَفْيِهَا فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ يَمِينُ اللَّغْوِ غَيْرَ الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ تَحْقِيقًا لِلْمُقَابَلَةِ، وَالْيَمِينُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ يَمِينٌ مَعْقُودَةٌ سَوَاءٌ وُجِدَ الْقَصْدُ أَوْ لَا وَلِأَنَّ اللَّغْوَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا} أَيْ بَاطِلًا.
وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ خَبَرًا عَنْ الْكَفَرَةِ: {وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا وَهُوَ الْحَلِفُ بِمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ بَلْ عَلَى ظَنٍّ مِنْ الْحَالِفِ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَالْحَقِيقَةُ بِخِلَافِهِ وَكَذَا مَا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَكِنْ فِي الْمَاضِي أَوْ الْحَالِ فَهُوَ مِمَّا لَا حَقِيقَةَ لَهُ فَكَانَ لَغْوًا وَلِأَنَّ اللَّغْوَ لَمَّا كَانَ هُوَ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ كَانَ هُوَ الْبَاطِلَ الَّذِي لَا حُكْمَ لَهُ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا مَعْقُودَةً لِأَنَّ لَهَا حُكْمًا.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ فِيهَا ثَابِتَةٌ وَفِيهَا الْكَفَّارَةُ بِالنَّصِّ؟ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ اللَّغْوِ مَا قُلْنَا وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي تَفْسِيرِ يَمِينِ اللَّغْوِ هِيَ أَنْ يَحْلِفَ الرَّجُلُ عَلَى الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ صَادِقٌ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ يَمِينَ اللَّغْوِ مَا يَجْرِي فِي كَلَامِ النَّاسِ لَا وَاَللَّهِ وَبَلَى وَاَللَّهِ فِي الْمَاضِي لَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا فَسَّرَتْهَا بِالْمَاضِي فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ.
وَرُوِيَ عَنْ مَطَرٍ عَنْ رَجُلٍ قَالَ دَخَلْت أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَسَأَلْتهَا عَنْ يَمِينِ اللَّغْوِ فَقَالَتْ قَوْلُ الرَّجُلِ فَعَلْنَا وَاَللَّهِ كَذَا وَصَنَعْنَا وَاَللَّهِ كَذَا فَتُحْمَلُ تِلْكَ الرِّوَايَةُ عَلَى هَذَا تَوْفِيقًا بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ إذْ الْمُجْمَلُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُفَسَّرِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: إنَّ اللَّهَ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَابَلَ اللَّغْوَ بِالْيَمِينِ الْمَكْسُوبَةِ فَنَقُولُ: فِي تِلْكَ الْآيَةِ قَابَلَهَا بِالْمَكْسُوبَةِ، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ قَابَلَهَا بِالْمَعْقُودَةِ، وَمَتَى أَمْكَنَ حَمْلُ الْآيَتَيْنِ عَلَى التَّوَافُقِ كَانَ أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى التَّعَارُضِ فَنَجْمَعُ بَيْنَ حُكْمِ الْآيَتَيْنِ فَنَقُولُ: يَمِينُ اللَّغْوِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَكْسُوبَةٍ وَغَيْرُ مَعْقُودَةٍ، وَالْمُخَالِفُ عَطَّلَ إحْدَى الْآيَتَيْنِ فَكُنَّا أَسْعَدَ حَالًا مِنْهُ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى- {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا} الْآيَةُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ ذَلِكَ نَهْيٌ عَنْ الْحَلِفِ عَلَى الْمَاضِي مَعْنَاهُ: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا} أَيْ لَا تَحْلِفُوا أَنْ لَا تَبَرُّوا وَيَجُوزُ إضْمَارُ حَرْفٍ لَا فِي مَوْضِعِ الْقَسَمِ وَغَيْرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} أَيْ لَا يُؤْتَوْا وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ عَامَّةً أَيْ لَا تَحْلِفُوا لِكَيْ تَبَرُّوا فَتَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً بِالْحِنْثِ بَعْدَ ذَلِكَ بِتَرْكِ التَّعْظِيمِ بِتَرْكِ الْوَفَاءِ بِالْيَمِينِ، يُقَالُ فُلَانٌ عُرْضَةٌ لِلنَّاسِ أَيْ لَا يُعَظِّمُونَهُ وَيَقَعُونَ فِيهِ فَيَكُونُ هَذَا نَهْيًا عَنْ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى إذَا لَمْ يَكُنِ الْحَالِفُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ الْإِصْرَارِ عَلَى مُوجِبِ الْيَمِينِ وَهُوَ الْبِرُّ أَوْ غَالِبِ الرَّأْيِ وَاَللَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ-.
وَأَمَّا الْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ فَهِيَ الْيَمِينُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا نَحْوَ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا وَقَوْلِهِ وَاَللَّهِ لَأَفْعَلَن كَذَا.

.فَصْلٌ: رُكْنُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى:

وَأَمَّا رُكْنُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ اللَّفْظُ الَّذِي يُسْتَعْمَلُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ وَالْمُقْسَمِ بِهِ ثُمَّ الْمُقْسَمُ بِهِ قَدْ يَكُونُ اسْمًا وَقَدْ يَكُونُ صِفَةً وَالِاسْمُ قَدْ يَكُونُ مَذْكُورًا وَقَدْ يَكُونُ مَحْذُوفًا وَالْمَذْكُورُ قَدْ يَكُونُ صَرِيحًا وَقَدْ يَكُونُ كِنَايَةً، أَمَّا الِاسْمُ صَرِيحًا فَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَيَّ اسْمٍ كَانَ سَوَاءٌ كَانَ اسْمًا خَاصًّا لَا يُطْلَقُ إلَّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى نَحْوُ اللَّهِ وَالرَّحْمَنِ أَوْ كَانَ يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى غَيْرِهِ كَالْعَلِيمِ وَالْحَكِيمِ وَالْكَرِيمِ وَالْحَلِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ وَإِنْ كَانَتْ تُطْلَقُ عَلَى الْخَلْقِ وَلَكِنْ تُعَيِّنُ الْخَالِقَ مُرَادًا بِدَلَالَةِ الْقَسَمِ إذْ الْقَسَمُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ فَكَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى حَمْلًا لِكَلَامِهِ عَلَى الصِّحَّةِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَيُصَدَّقُ فِي أَمْرٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ.
وَحُكِيَ عَنْ بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ فِيمَنْ قَالَ وَالرَّحْمَنِ أَنَّهُ إنْ قَصَدَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ حَالِفٌ وَإِنْ أَرَادَ بِهِ سُورَةَ الرَّحْمَنِ فَلَيْسَ بِحَالِفٍ فَكَأَنَّهُ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَسَمُ بِحَرْفِ الْبَاءِ أَوْ الْوَاوِ أَوْ التَّاءِ بِأَنْ قَالَ بِاَللَّهِ أَوْ تَاللَّهِ لِأَنَّ الْقَسَمَ بِكُلِّ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ وَقَدْ وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ أَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وَقَالَ: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} وَقَالَ تَعَالَى خَبَرًا عَنْ إخْوَةِ يُوسُفَ: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ} وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ} وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَدَعْ» إلَّا أَنَّ الْبَاءَ هِيَ الْأَصْلُ وَمَا سِوَاهَا دَخِيلٌ قَائِمٌ مَقَامَهَا، فَقَوْلُ الْحَالِفِ بِاَللَّهِ أَيْ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ لِأَنَّ الْبَاءَ حَرْفُ إلْصَاقٍ وَهُوَ إلْصَاقُ الْفِعْلِ بِالِاسْمِ وَرَبْطُ الْفِعْلِ بِالِاسْمِ، وَالنَّحْوِيُّونَ يُسَمُّونَ الْبَاءَ حَرْفَ إلْصَاقٍ وَحَرْفَ الرَّبْطِ وَحَرْفَ الْآلَةِ وَالتَّسْبِيبِ فَإِنَّكَ إذَا قُلْتَ كَتَبْتُ بِالْقَلَمِ فَقَدْ أَلْصَقْتَ الْفِعْلَ بِالِاسْمِ وَرَبَطْتَ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ فَكَانَ الْقَلَمُ آلَةَ الْكِتَابَةِ وَسَبَبًا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَيْهَا فَإِذَا قَالَ بِاَللَّهِ فَقَدْ أَلْصَقَ الْفِعْلَ الْمَحْذُوفَ وَهُوَ قَوْلُهُ: احْلِفْ بِالِاسْمِ وَهُوَ قَوْلُهُ: بِاَللَّهِ وَجَعَلَ اسْمَ اللَّهِ آلَةً لِلْحَلِفِ وَسَبَبًا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُ هَذِهِ اللَّفْظَةِ أُسْقِطَ قَوْلُهُ أَحْلِفُ وَاكْتُفِيَ بِقَوْلِهِ بِاَللَّهِ كَمَا هُوَ دَأْبُ الْعَرَبِ مِنْ حَذْفِ الْبَعْضِ وَإِبْقَاءِ الْبَعْضِ عِنْدَ كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ إذَا كَانَ فِيمَا بَقِيَ دَلِيلٌ عَلَى الْمَحْذُوفِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ بِاسْمِ اللَّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا خُفِضَ الِاسْمُ لِأَنَّ الْبَاءَ مِنْ حُرُوفِ الْخَفْضِ وَالْوَاوُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فَصَارَ كَأَنَّ الْبَاءَ هُوَ الْمَذْكُورُ وَكَذَا التَّاءُ قَائِمٌ مَقَامَ الْوَاوِ فَكَانَ الْوَاوَ هُوَ الْمَذْكُورُ إلَّا أَنَّ الْبَاءَ تُسْتَعْمَلُ فِي جَمِيعِ مَا يُقْسَمُ بِهِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَكَذَا الْوَاوُ.
فَأَمَّا التَّاءُ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى تَقُولُ تَاللَّهِ وَلَا تَقُولُ تَالرَّحْمَنِ وَتَعِزَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِمَعْنًى يُذْكَرُ فِي النَّحْوِ وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَدَوَاتِ بِأَنْ قَالَ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا يَكُونُ يَمِينًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «حَلَّفَ رُكَانَةَ بْنَ زَيْدٍ أَوْ زَيْدَ بْنَ رُكَانَةَ حِينَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ وَقَالَ: اللَّهِ مَا أَرَدْتُ بِالْبَتِّ إلَّا وَاحِدَةً» وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الصَّحِيحَ مَا قَالَهُ الْكُوفِيُّونَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِالْكَسْرِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ اللَّهَ بِالْكَسْرِ وَهُوَ أَفْصَحُ الْعَرَبِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ سَأَلَهُ وَاحِدٌ وَقَالَ لَهُ كَيْفَ أَصْبَحْتَ قَالَ: خَيْرٍ عَافَاكَ اللَّهُ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ هَلْ يَكُونُ يَمِينًا لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِي الْأَصْلِ وَقَالُوا إنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّ الرَّاءَ تُوضَعُ مَوْضِعَ اللَّامِ يُقَالُ آمَنَ بِاَللَّهِ وَآمَنَ لَهُ بِمَعْنًى.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ فِرْعَوْنَ: {آمَنْتُمْ لَهُ} وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {آمَنْتُمْ بِهِ} وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ وَلَوْ قَالَ وَرَبِّي وَرَبِّ الْعَرْشِ أَوْ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَانَ حَالِفًا لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْأَسْمَاءِ الْخَاصَّةِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ.
(وَأَمَّا) الصِّفَةُ فَصِفَاتُ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّهَا كُلَّهَا لِذَاتِهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مِنْهَا مَا لَا يُسْتَعْمَلُ فِي عُرْفِ النَّاسِ وَعَادَاتِهِمْ إلَّا فِي الصِّفَةِ نَفْسِهَا فَالْحَلِفُ بِهَا يَكُونُ يَمِينًا، وَمِنْهَا مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الصِّفَةِ وَفِي غَيْرِهَا اسْتِعْمَالًا عَلَى السَّوَاءِ فَالْحَلِفُ بِهَا يَكُونُ يَمِينًا أَيْضًا، وَمِنْهَا مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الصِّفَةِ وَفِي غَيْرِهَا لَكِنْ اسْتِعْمَالُهَا فِي غَيْرِ الصِّفَةِ هُوَ الْغَالِبُ فَالْحَلِفُ بِهَا لَا يَكُونُ يَمِينًا، وَعَنْ مَشَايِخِنَا مَنْ قَالَ مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ يَمِينًا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ وَمَا لَمْ يَتَعَارَفُوهُ يَمِينًا لَا يَكُونُ يَمِينًا، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا قَالَ وَعِزَّةِ اللَّهِ وَعَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ يَكُونُ حَالِفًا لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ إذَا ذُكِرَتْ فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لَا يُرَادُ بِهَا إلَّا نَفْسَهَا فَكَانَ مُرَادُ الْحَالِفِ بِهَا الْحَلِفَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَكَذَا النَّاس يَتَعَارَفُونَ الْحَلِفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْحَلِفِ بِهَا.
وَكَذَا لَوْ قَالَ وَقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُوَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَرِضَاهُ وَمَحَبَّتِهِ وَكَلَامِهِ يَكُونُ حَالِفًا لِأَنَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَإِنْ كَانَتْ تُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ الصِّفَةِ كَمَا تُسْتَعْمَلُ فِي الصِّفَةِ لَكِنَّ الصِّفَةَ تَعَيَّنَتْ مُرَادَةً بِدَلَالَةِ الْقَسَمِ إذْ لَا يَجُوزُ الْقَسَمُ بِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ فَالظَّاهِرُ إرَادَةُ الصِّفَةِ بِقَرِينَةِ الْقَسَمِ وَكَذَا النَّاسُ يُقْسِمُونَ بِهَا فِي الْمُتَعَارَفِ فَكَانَ الْحَلِفُ بِهَا يَمِينًا، وَلَوْ قَالَ وَرَحْمَةِ اللَّهِ أَوْ غَضَبِهِ أَوْ سَخَطِهِ لَا يَكُونُ هَذَا يَمِينًا لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ آثَارُهَا عَادَةً لَا نَفْسُهَا فَالرَّحْمَةُ يُرَادُ بِهَا الْجَنَّةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وَالْغَضَبُ وَالسَّخَطُ يُرَادُ بِهِ أَثَرُ الْغَضَبِ وَالسَّخَطِ عَادَةً وَهُوَ الْعَذَابُ وَالْعُقُوبَةُ لَا نَفْسُ الصِّفَةِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ حَالِفًا إلَّا إذَا نَوَى بِهِ الصِّفَةَ.
وَكَذَا الْعَرَبُ مَا تَعَارَفَتْ الْقَسَمَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَلَا يَكُونُ الْحَلِفُ بِهَا يَمِينًا وَكَذَا وَعِلْمِ اللَّهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى صِفَةٌ كَالْعِزَّةِ وَالْعَظَمَةِ.
(وَلَنَا) أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْمَعْلُومُ عَادَةً يُقَالُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا عِلْمَك فِينَا أَيْ مَعْلُومَك مِنَّا وَمِنْ زَلَّاتِنَا وَيُقَالُ هَذَا عِلْمُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْ مَعْلُومُهُ لِأَنَّ عِلْمَ أَبِي حَنِيفَةَ قَائِمٌ بِأَبِي حَنِيفَةَ لَا يُزَايِلُهُ، وَمَعْلُومُ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ يَكُونُ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْعَالِمِ بِأَعْيَانِهَا وَأَعْرَاضِهَا وَالْمَعْدُومَاتُ كُلُّهَا لِأَنَّ الْمَعْدُومَ مَعْلُومٌ فَلَا يَكُونُ الْحَلِفُ بِهِ يَمِينًا إلَّا إذَا أَرَادَ بِهِ الصِّفَةَ.
وَكَذَا الْعَرَبُ لَمْ تَتَعَارَفْ الْقَسَمَ بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ يَمِينًا بِدُونِ النِّيَّةِ.
وَسُئِلَ مُحَمَّدٌ عَمَّنْ قَالَ وَسُلْطَانِ اللَّهِ فَقَالَ لَا أَرَى مَنْ يَحْلِفُ بِهَذَا أَيْ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالسُّلْطَانِ الْقُدْرَةَ يَكُونُ حَالِفًا كَمَا لَوْ قَالَ وَقُدْرَةِ اللَّهِ وَإِنْ أَرَادَ الْمَقْدُورَ لَا يَكُونُ حَالِفًا لِأَنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ وَلَوْ قَالَ وَأَمَانَةِ اللَّهِ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا أَنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ.
وَجْهُ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ أَمَانَةَ اللَّهِ فَرَائِضُهُ الَّتِي تَعَبَّدَ عِبَادَهُ بِهَا مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} فَكَانَ حَلِفًا بِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا.
(وَجْهُ) مَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ أَنَّ الْأَمَانَةَ الْمُضَافَةَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْقَسَمِ يُرَادُ بِهَا صِفَتَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمِينَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الْأَمَانَةِ؟ فَكَانَ الْمُرَادُ بِهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ خُصُوصًا فِي مَوْضِعِ الْقَسَمِ صِفَةَ اللَّهِ وَلَوْ قَالَ وَعَهْدِ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ لِأَنَّ الْعَهْدَ يَمِينٌ لِمَا يُذْكَرُ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ وَيَمِينِ اللَّهِ وَذَلِكَ يَمِينٌ فَكَذَا هَذَا.
وَلَوْ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا يَكُونُ يَمِينًا كَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الِاسْمَ وَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَكَانَ الْحَلِفُ بِالِاسْمِ حَلِفًا بِالذَّاتِ كَأَنَّهُ قَالَ بِاَللَّهِ، وَلَوْ قَالَ وَوَجْهِ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ كَذَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْوَجْهَ الْمُضَافَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يُرَادُ بِهِ الذَّاتُ قَالَ تَعَالَى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلَّا وَجْهَهُ} أَيْ ذَاتَهُ.
وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّك ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} أَيْ ذَاتُهُ وَذَكَرَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ وَوَجْهِ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا ثُمَّ فَعَلَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِيَمِينٍ.
وَقَالَ ابْنُ شُجَاعٍ إنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَيْمَانِ النَّاسِ إنَّمَا هِيَ حَلِفُ السَّفَلَةِ، وَرَوَى الْمُعَلَّى عَنْ مُحَمَّدٍ إذَا قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا لَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ يَمِينًا.
وَكَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ لَا أَفْعَلُ كَذَا لِأَنَّ الْعَادَةَ مَا جَرَتْ بِالْقَسَمِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَإِنَّمَا يُذْكَرُ هَذَا قَبْلَ الْخَبَرِ عَلَى طَرِيقِ التَّعَجُّبِ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا إذَا نَوَى الْيَمِينَ فَكَأَنَّهُ حَذَفَ حَرْفَ الْقَسَمِ فَيَكُونُ حَالِفًا وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قَالَ وَمَلَكُوتِ اللَّهِ وَجَبَرُوتِ اللَّهِ إنَّهُ يَمِينٌ لِأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الصِّفَةِ فَكَانَ الْحَلِفُ بِهِ يَمِينًا كَقَوْلِهِ وَعَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ.
وَلَوْ قَالَ وَعَمْرِ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا كَانَ يَمِينًا لِأَنَّ هَذَا حَلِفٌ بِبَقَاءِ اللَّهِ وَهُوَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الصِّفَةِ وَكَذَا الْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفٌ قَالَ اللَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ:- {لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
وَقَالَ طَرَفَةُ لَعَمْرُك إنَّ الْمَوْتَ مَا أَخْطَأَ الْفَتَى لَكَالطِّوَلِ الْمُرْخَى وَثِنْيَاهُ بِالْيَدِ وَلَوْ قَالَ وَاَيْمُ اللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا كَانَ يَمِينًا لِأَنَّ هَذَا مِنْ صِلَاتِ الْيَمِينِ عِنْدَ الْبَصْرِيَّيْنِ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَمَّرَهُ فِي حَرْبِ مُؤْتَةَ وَقَدْ بَلَغَهُ الطَّعْنُ وَاَيْمُ اللَّهِ لَخَلِيقٌ لِلْإِمَارَةِ» وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ هُوَ جَمْعُ الْيَمِينِ تَقْدِيرُهُ وَأَيْمُنِ اللَّهِ إلَّا أَنَّ النُّونَ أُسْقِطَتْ عِنْدَ كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ لِلتَّخْفِيفِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى- {حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} وَالْأَيْمُنُ جَمْعُ يَمِينٍ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَيَمِينِ اللَّهِ وَإِنَّهُ حَلِفٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْعَرَبَ تَعَارَفَتْهُ يَمِينًا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ فَقُلْتُ يَمِينُ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا وَإِنْ قُطِعَتْ رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالِي حَلَفْتُ لَهَا بِاَللَّهِ حَلْفَةَ فَاجِرٍ لَنَامُوا فَمَا إنْ مِنْ حَدِيثٍ وَلَا صَالِي.
وَقَالَتْ عُنَيْزَةُ فَقَالَتْ يَمِينُ اللَّهِ مَا لَكَ حِيلَةٌ وَمَا أَنْ أَرَى عَنْكَ الْغِوَايَةَ تَنْجَلِي فَقَدْ اسْتَعْمَلَ امْرُؤُ الْقَيْسِ يَمِينَ اللَّهِ وَسَمَّاهُ حَلِفًا بِاَللَّهِ.
وَلَوْ قَالَ وَحَقِّ اللَّهِ لَا يَكُونُ حَالِفًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَرُوِيَ عَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا وَوَجْهُهُ أَنَّ قَوْلَهُ وَحَقِّ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ إضَافَةَ الْحَقِّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لَكِنَّ الشَّيْءَ قَدْ يُضَافُ إلَى نَفْسِهِ فِي الْجُمْلَةِ وَالْحَقُّ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَأَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ الْحَقِّ، وَلَهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُضَافَ الشَّيْءُ إلَى غَيْرِهِ لَا إلَى نَفْسِهِ فَكَانَ حَلِفًا بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ يَمِينًا وَلِأَنَّ الْحَقَّ الْمُضَافَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يُرَادُ بِهِ الطَّاعَاتُ وَالْعِبَادَاتُ لِلَّهِ تَعَالَى فِي عُرْفِ الشَّرْعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِيلَ لَهُ مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فَقَالَ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا» وَالْحَلِفُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَلَوْ قَالَ وَالْحَقِّ يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}.
وَقِيلَ إنْ نَوَى بِهِ الْيَمِينَ يَكُونُ يَمِينًا وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ اسْمَ الْحَقِّ كَمَا يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِهِ فَيَقِفُ عَلَى النِّيَّةِ وَلَوْ قَالَ حَقًّا، لَا رِوَايَةَ فِيهِ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ لَا يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّ قَوْلَهُ حَقًّا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ صِدْقًا وَقَالَ أَبُو مُطِيعٍ هُوَ يَمِينٌ لِأَنَّ الْحَقَّ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَوْلُهُ حَقًّا كَقَوْلِهِ وَالْحَقِّ.
وَلَوْ قَالَ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ أَوْ أَحْلِفُ أَوْ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَوْ أَعْزِمُ بِاَللَّهِ كَانَ يَمِينًا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا إذَا نَوَى الْيَمِينَ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْحَالَ وَيَحْتَمِلُ الِاسْتِقْبَالَ فلابد مِنْ النِّيَّةِ وَلَنَا أَنَّ صِيغَةَ أَفْعَلُ لِلْحَالِ حَقِيقَةً وَلِلِاسْتِقْبَالِ بِقَرِينَةِ السِّينِ وَسَوْفَ وَهُوَ الصَّحِيحُ فَكَانَ هَذَا إخْبَارًا عَنْ حَلِفِهِ بِاَللَّهِ لِلْحَالِ وَهَذَا إذَا ظَهَرَ الْمُقْسَمُ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ بِأَنْ قَالَ أُقْسِمُ أَوْ أَحْلِفُ أَوْ أَشْهَدُ أَوْ أَعْزِمُ كَانَ يَمِينًا فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَكُونُ يَمِينًا.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ إنَّهُ إذَا لَمْ يَذْكُرْ الْمَحْلُوفَ بِهِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْحَلِفَ بِاَللَّهِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُجْعَلُ حَلِفًا مَعَ الشَّكِّ.
(وَلَنَا) أَنَّ الْقَسَمَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ إلَّا بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْهُ إخْبَارًا عَمَّا لَا يَجُوزُ بِدُونِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى- {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} وَنَحْوِ ذَلِكَ وَلِأَنَّ الْعَرَبَ تَعَارَفَتْ الْحَلِفَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} وَلَمْ يَقُلْ بِاَللَّهِ وَقَالَ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- {إذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} فَاَللَّهُ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- سَمَّاهُ يَمِينًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً}.
وَقَالَ تَعَالَى: {إذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} وَلَمْ يَذْكُرْ بِاَللَّهِ ثُمَّ سَمَّاهُ قَسَمًا وَالْقَسَمُ لَا يَكُونُ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى فِي عُرْفِ الشَّرْعِ وَاسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ بِقَوْلِهِ: {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} فَقَالَ أَفَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَّا فِي الْيَمِينِ؟ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الْيَمِينِ لَا مَحَالَةَ وَإِنَّمَا يَسْتَدْعِي الْإِخْبَارَ عَنْ أَمْرٍ يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وَقَوْلُهُ أَعْزِمُ مَعْنَاهُ أُوجِبُ فَكَانَ إخْبَارًا عَنْ الْإِيجَابِ فِي الْحَالِ وَهَذَا مَعْنَى الْيَمِينِ وَكَذَا لَوْ قَالَ عَزَمْتُ لَا أَفْعَلُ كَذَا كَانَ حَالِفًا وَكَذَا لَوْ قَالَ آلَيْتُ لَا أَفْعَلُ كَذَا لِأَنَّ الْأَلِيَّةَ هِيَ الْيَمِينُ وَكَذَا لَوْ قَالَ عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ نَذْرُ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ نَذَرَ وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى وَمَنْ نَذَرَ وَلَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّذْرُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ» وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ عَنْ بَيْعِ رِبَاعِهَا أَوْ لَأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةُ فَقَالَتْ: أَوَقَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ: فَقَالَتْ: لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ إنْ كَلَّمْتُهُ أَبَدًا فَأَعْتَقَ عَنْ يَمِينِهَا عَبْدًا وَكَذَا قَوْلُهُ عَلَيَّ يَمِينٌ أَوْ يَمِينُ اللَّهِ فِي قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ.
وَقَالَ زُفَرُ لَهُ عَلَيَّ يَمِينٌ لَا يَكُونُ يَمِينًا.
(وَجْهُ) قَوْلِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْيَمِينَ قَدْ يَكُونُ بِاَللَّهِ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَنْعَقِدُ يَمِينًا بِالشَّكِّ.
(وَلَنَا) أَنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ يَمِينٌ أَيْ يَمِينُ اللَّهِ إذْ لَا يَجُوزُ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَوْلُهُ يَمِينُ اللَّهِ دُونَ قَوْلِهِ عَلَيَّ يَمِينٌ فَكَيْفَ مَعَهُ؟ أَوْ يُقَالُ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيَّ يَمِينٌ أَوْ يَمِينُ اللَّهِ أَيْ عَلَيَّ مُوجِبُ يَمِينِ اللَّهِ إلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إلَيْهِ مَقَامَهُ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ عِنْدَ كَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ أَوْ ذِمَّةُ اللَّهِ أَوْ مِيثَاقُهُ فَهُوَ يَمِينٌ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى هِيَ عَهْدُ اللَّهِ عَلَى تَحْقِيقٍ أَوْ نَفْيِهِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ} ثُمَّ قَالَ- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} وَجُعِلَ الْعَهْدُ يَمِينًا، وَالذِّمَّةُ هِيَ الْعَهْدُ وَمِنْهُ أَهْلُ الذِّمَّةِ أَيْ أَهْلُ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ وَالْعَهْدُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ إذَا بَعَثَ جَيْشًا قَالَ فِي وَصِيَّتِهِ إيَّاهُمْ وَإِنْ أَرَادُوكُمْ أَنْ تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ فَلَا تُعْطُوهُمْ» أَيْ عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ وَلَوْ قَالَ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ أَوْ بَرِيءٌ عَنْ الْإِسْلَامِ أَوْ كَافِرٌ أَوْ يَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْ يَعْبُدُ الصَّلِيبَ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يَكُونُ اعْتِقَادُهُ كُفْرًا فَهُوَ يَمِينٌ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ عَلَّقَ الْفِعْلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ مَعْصِيَةٌ فَلَا يَكُونُ حَالِفًا كَمَا لَوْ قَالَ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُوَ شَارِبٌ خَمْرًا أَوْ آكِلٌ مَيْتَةً.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْحَلِفَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ النَّاسِ فَإِنَّهُمْ يَحْلِفُونَ بِهَا مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حَلِفًا لَمَا تَعَارَفُوا لِأَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى مَعْصِيَةٌ فَدَلَّ تَعَارُفُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِنْ لَمْ يُعْقَلْ.
وَجْهُ الْكِنَايَةِ فِيهِ كَقَوْلِ الْعَرَبِ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَضْرِبَ ثَوْبِي حَطِيمَ الْكَعْبَةِ إنَّ ذَلِكَ جُعِلَ كِنَايَةً عَنْ التَّصَدُّقِ فِي عُرْفِهِمْ وَإِنْ لَمْ يُعْقَلْ وَجْهُ الْكِنَايَةِ فِيهِ كَذَا هَذَا، هَذَا إذَا أَضَافَ الْيَمِينَ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَأَمَّا إذَا أَضَافَ إلَى الْمَاضِي بِأَنْ قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا لِشَيْءٍ قَدْ فَعَلَهُ فَهَذَا يَمِينُ الْغَمُوسِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ عِنْدَنَا لَكِنَّهُ هَلْ يُكَفَّرُ؟ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْأَصْلِ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ أَنَّهُ يَكْفُرُ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْكُفْرَ بِشَيْءٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ مَوْجُودٌ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ هُوَ كَافِرٌ بِاَللَّهِ وَكَتَبَ نَصْرُ بْنُ يَحْيَى إلَى ابْنِ شُجَاعٍ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَا يَكْفُرُ وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ مَا قَصَدَ بِهِ الْكُفْرَ وَلَا اعْتَقَدَهُ وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ تَرْوِيحَ كَلَامِهِ وَتَصْدِيقَهُ فِيهِ وَلَوْ قَالَ عَصَيْتُ اللَّهَ إنْ فَعَلْتُ كَذَا أَوْ عَصَيْتُهُ فِي كُلِّ مَا افْتَرَضَ عَلَيَّ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ لِأَنَّ النَّاسَ مَا اعْتَادُوا الْحَلِفَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ.
وَلَوْ قَالَ هُوَ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ أَوْ يَسْتَحِلُّ الدَّمَ أَوْ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ أَوْ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ إنْ فَعَلَ كَذَا فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يَمِينًا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِيجَابٍ بَلْ هُوَ إخْبَارٌ عَنْ فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَحْوِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ إيجَابٌ فِي الْحَالِ وَكَذَلِكَ لَوْ دَعَا عَلَى نَفْسِهِ بِالْمَوْتِ أَوْ عَذَابِ النَّارِ بِأَنْ قَالَ عَلَيْهِ عَذَابُ اللَّهِ إنْ فَعَلَ كَذَا أَوْ قَالَ أَمَاتَهُ اللَّهُ إنْ فَعَلَ كَذَا لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِإِيجَابٍ بَلْ دُعَاءٌ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يُحْلَفُ بِالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْأَبْنَاءِ وَلَوْ حَلَفَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَا يَكُونُ يَمِينًا لِأَنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالنَّاسُ وَإِنْ تَعَارَفُوا الْحَلِفَ بِهِمْ لَكِنَّ الشَّرْعَ نَهَى عَنْهُ وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ» وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ» وَلِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْحَلِفِ لِتَعْظِيمِ الْمَحْلُوفِ وَهَذَا النَّوْعَ مِنْ التَّعْظِيمِ لَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَوْ قَالَ وَدِينِ اللَّهِ أَوْ طَاعَتِهِ أَوْ شَرَائِعِهِ أَوْ أَنْبِيَائِهِ وَمَلَائِكَتِهِ أَوْ عَرْشِهِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا لِأَنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ الْحَلِفُ بِالْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَغَيْرِهِمْ يَمِينٌ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِلْحَدِيثِ وَلِأَنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ فَلَا يَكُونُ قَسَمًا كَالْحَلِفِ بِالْكَعْبَةِ كَذَا لَوْ قَالَ وَبَيْتِ اللَّهِ أَوْ حَلَفَ بِالْكَعْبَةِ أَوْ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ أَوْ بِالصَّفَا أَوْ بِالْمَرْوَةِ أَوْ بِالصَّلَاةِ أَوْ الصَّوْمِ أَوْ الْحَجِّ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكَذَا الْحَلِفُ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَالْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ لِمَا قُلْنَا وَلَا يَحْلِفُ بِالسَّمَاءِ وَلَا بِالْأَرْضِ وَلَا بِالشَّمْسِ وَلَا بِالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَلَا بِكُلِّ شَيْءٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ الْعَلِيَّةِ لِمَا قُلْنَا وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يُحْلَفُ إلَّا بِاَللَّهِ مُتَجَرِّدًا بِالتَّوْحِيدِ وَالْإِخْلَاصِ.
وَلَوْ قَالَ وَعِبَادَةِ وَحَمْدِ اللَّهِ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ لِأَنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِبَادَةَ وَالْحَمْدَ فِعْلُكَ.
وَلَوْ قَالَ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِالْمُصْحَفِ أَوْ بِسُورَةِ كَذَا مِنْ الْقُرْآنِ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ لِأَنَّهُ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَمَّا الْمُصْحَفُ فَلَا شَكَّ فِيهِ وَأَمَّا الْقُرْآنُ وَسُورَةُ كَذَا فَلِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ مِنْ اسْمِ الْقُرْآنِ الْحُرُوفُ الْمَنْظُومَةُ وَالْأَصْوَاتُ الْمُقَطَّعَةُ بِتَقْطِيعٍ خَاصٍّ لَا كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تُنَافِي السُّكُوتَ وَالْآفَةَ.
وَلَوْ قَالَ بِحُدُودِ اللَّهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا كَذَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِحُدُودِ اللَّهِ قَالَ بَعْضُهُمْ يُرَادُ بِهِ الْحُدُودُ الْمَعْرُوفَةُ مِنْ حَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُرَادُ بِهَا الْفَرَائِضُ مِثْلُ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا وَكُلُّ ذَلِكَ حَلِفٌ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ يَمِينًا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ وَلَا بِحَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ وَلَا تَحْلِفُوا إلَّا بِاَللَّهِ وَمَنْ حُلِفَ لَهُ بِاَللَّهِ فَلْيَرْضَ وَمَنْ لَمْ يَرْضَ فَلَيْسَ مِنَّا».
وَلَوْ قَالَ عَلَيْهِ غَضَبُ اللَّهِ أَوْ سَخَطُهُ أَوْ لَعْنَتُهُ إنْ فَعَلَ كَذَا لَمْ يَكُنْ يَمِينًا لِأَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَى نَفْسِهِ بِالْعَذَابِ وَالْعُقُوبَةِ وَالطَّرْدِ عَنْ الرَّحْمَةِ فَلَا يَكُونُ حَالِفًا كَمَا لَوْ قَالَ عَلَيْهِ عَذَابُ اللَّهِ وَعِقَابُهُ وَبُعْدُهُ عَنْ رَحْمَتِهِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا بِالْعِرَاقِ مَنْ قَالَ فِي تَخْرِيجِهِ الْقَسَمَ بِالصِّفَاتِ: أَنَّ الصِّفَاتِ عَلَى ضَرْبَيْنِ صِفَةٌ لِلذَّاتِ وَصِفَةٌ لِلْفِعْلِ وَفَصَلَ بَيْنَهُمَا بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَهُوَ أَنَّ مَا يُثْبَتُ وَلَا يُنْفَى فَهُوَ صِفَةٌ لِلذَّاتِ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَنَحْوِهِمَا وَمَا يُثْبَتُ وَيُنْفَى فَهُوَ صِفَةُ الْفِعْلِ كَالتَّكْوِينِ وَالْإِحْيَاءِ وَالرِّزْقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَجَعَلَ الرَّحْمَةَ وَالْغَضَبَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ فَجَعَلَ صِفَةَ الذَّاتِ قَدِيمَةً وَصِفَةَ الْفِعْلِ حَادِثَةً فَقَالَ الْحَلِفُ بِصِفَةِ الذَّاتِ يَكُونُ حَلِفًا بِاَللَّهِ فَيَكُونُ يَمِينًا، وَالْحَلِفُ بِصِفَةِ الْفِعْلِ يَكُونُ حَلِفًا بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ يَمِينًا وَالْقَوْلُ بِحُدُوثِ صِفَاتِ الْفِعْلِ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ إلَّا أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْحَدِّ الْفَاصِلِ بَيْنَ الصِّفَتَيْنِ فَفَصَّلَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِمَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ مِنْ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَالْأَشْعَرِيَّةُ فَصَّلَتْ بِلُزُومِ النَّقِيصَةِ وَعَدَمِ اللُّزُومِ وَهُوَ أَنَّهُ مَا يَلْزَمُ بِنَفْيِهِ نَقِيصَةٌ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ وَمَا لَا يَلْزَمُ بِنَفْيِهِ نَقِيصَةٌ فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ مَعَ اتِّفَاقِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى حُدُوثِ صِفَاتِ الْفِعْلِ.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي التَّحْدِيدِ لِأَجْلِ الْكَلَامِ، فَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى مُحْدَثٌ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّهُ يُنْفَى وَيُثْبَتُ فَكَانَ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ فَكَانَ حَادِثًا وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ أَزَلِيٌّ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ بِنَفْيِهِ نَقِيصَةٌ فَكَانَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ فَكَانَ قَدِيمًا، وَمَذْهَبُنَا وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ أَزَلِيَّةٌ وَاَللَّهَ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِهَا فِي الْأَزَلِ سَوَاءٌ كَانَتْ رَاجِعَةً إلَى الذَّاتِ أَوْ إلَى الْفِعْلِ فَهَذَا التَّخْرِيجُ وَقَعَ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَإِنَّمَا الطَّرِيقَةُ الصَّحِيحَةُ وَالْحُجَّةُ الْمُسْتَقِيمَةُ فِي تَخْرِيجِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَسَائِلِ مَا سَلَكْنَا- وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِلسَّدَادِ وَالْهَادِي إلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ- وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقَسَمِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَأَمَّا إذَا كُرِّرَ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ ذَكَرَ الْمُقْسَمَ بِهِ وَهُوَ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ حَتَّى ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ- تَعَالَى ثَانِيًا ثُمَّ ذَكَرَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ وَأَمَّا إنْ ذَكَرَهُمَا جَمِيعًا ثُمَّ أَعَادَهُمَا جَمِيعًا وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ أَوْ يَكُونَ بِدُونِهِ.
فَإِنْ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ حَتَّى كَرَّرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ ذَكَرَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ حَرْفُ الْعَطْفِ كَانَ يَمِينًا وَاحِدَةً بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ كَانَ الِاسْمُ مُخْتَلِفًا أَوْ مُتَّفِقًا فَالْمُخْتَلِفُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ وَاَللَّهِ الرَّحْمَنِ مَا فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ الْعَطْفِ، وَالثَّانِي يَصْلُحُ صِفَةً لِلْأَوَّلِ عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الصِّفَةَ فَيَكُونُ حَالِفًا بِذَاتٍ مَوْصُوفٍ لَا بِاسْمِ الذَّاتِ عَلَى حِدَةٍ وَبِاسْمِ الصِّفَةِ عَلَى حِدَةٍ، وَالْمُتَّفِقُ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهِ وَاَللَّهِ مَا فَعَلْتُ كَذَا لِأَنَّ الثَّانِيَ لَا يَصْلُحُ نَعْتًا لِلْأَوَّلِ وَيَصْلُحُ تَكْرِيرًا وَتَأْكِيدًا لَهُ فَيَكُونُ يَمِينًا وَاحِدَةً إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِهِ يَمِينَيْنِ وَيَصِيرُ قَوْلُهُ: اللَّهِ ابْتِدَاءَ يَمِينٍ بِحَذْفِ حَرْفِ الْقَسَمِ وَأَنَّهُ قَسَمٌ صَحِيحٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَإِنْ أَدْخَلَ بَيْنَ الْقَسَمَيْنِ حَرْفَ عَطْفٍ بِأَنْ قَالَ: وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ لَا أَفْعَلُ كَذَا، ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُمَا يَمِينَانِ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، أَنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا وَاحِدَةً وَبِهِ أَخَذَ زُفَرُ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا أَيْضًا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ.
وَجْهُ رِوَايَةِ الْمَذْكُورِ فِي الْجَامِعِ أَنَّهُ لَمَّا عُطِفَ أَحَدُ الِاسْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ فَكَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينًا عَلَى حِدَةٍ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُعْطَفْ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْطَفْ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ يُجْعَلُ الثَّانِي صِفَةً لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ صِفَةً لِأَنَّ الِاسْمَ يَخْتَلِفُ وَلِهَذَا يَسْتَحْلِفُ الْقَاضِي بِالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ مِنْ غَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ فَيَقُولُ وَاَللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الطَّالِبِ الْمُدْرِكِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ مَعَ حَرْفِ الْعَطْفِ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَّا يَمِينٌ وَاحِدَةٌ.
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ حَرْفَ الْعَطْفِ قَدْ يُسْتَعْمَلُ لِلِاسْتِئْنَافِ وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ لِلصِّفَةِ فَإِنَّهُ يُقَالُ فُلَانٌ الْعَالِمُ وَالزَّاهِدُ وَالْجَوَادُ وَالشُّجَاعُ فَاحْتَمَلَ الْمُغَايِرَةَ وَاحْتَمَلَ الصِّفَةَ فَلَا تَثْبُتُ يَمِينٌ أُخْرَى مَعَ الشَّكِّ وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَنَّ هَذَا يَكُونُ يَمِينًا وَاحِدَةً أَوْ يَكُونُ يَمِينَيْنِ، وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ إدْخَالَ الْقَسَمِ عَلَى الْقَسَمِ قَبْلَ تَمَامِ الْكَلَامِ هَلْ يَجُوزُ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَسَوِيِّ وَالْخَلِيلِ حَتَّى حَكَى سِيبَوَيْهِ عَنْ الْخَلِيلِ أَنَّ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاللَّيْلِ إذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إذَا تَجَلَّى} يَمِينٌ وَاحِدَةٌ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَالْفَرَّاءِ حَتَّى قَالَ الزَّجَّاجُ إنَّ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ص} قَسَمٌ، وَقَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} قَسَمٌ آخَرُ، وَالْحُجَجُ وَتَعْرِيفُ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ تُعْرَفُ فِي كُتُبِ النَّحْوِ، وَقَدْ قِيلَ فِي تَرْجِيحِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَى الثَّانِي إنَّا إذَا جَعَلْنَاهُمَا يَمِينًا وَاحِدَةً لَا نَحْتَاجُ إلَى إدْرَاجِ جَوَابٍ آخَرَ بَلْ يَصِيرُ قَوْلُهُ لَا أَفْعَلُ مُقْسَمًا عَلَيْهِ بِالِاسْمَيْنِ جَمِيعًا وَلَوْ جَعَلْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَسَمًا عَلَى حِدَةٍ لَاحْتَجْنَا إلَى إدْرَاجِ ذِكْرِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ لِأَحَدِ الِاسْمَيْنِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا فَعَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي الْجَامِعِ يَكُونُ يَمِينَيْنِ، وَرَوَى مُحَمَّدٌ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ كَأَنَّهُ اسْتَحْسَنَ، وَحَمَلَهُ عَلَى التَّكْرَارِ لِتَعَارُفِ النَّاسِ، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا قَالَ وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ وَالرَّحِيمِ وَفِيهِ قُبْحٌ وَيَنْبَغِي فِي الِاسْتِحْسَانِ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا وَاحِدَةً هَكَذَا ذُكِرَ، وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ وَلَكَنَّى أَسْتَحْسِنُ فَأَجْعَلُ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً وَهَذَا كُلُّهُ فِي الِاسْمِ الْمُتَّفِقِ، تَرَكَ مُحَمَّدٌ الْقِيَاسَ وَأَخَذَ بِالِاسْتِحْسَانِ لِمَكَانِ الْعُرْفِ لِمَا زَعَمَ أَنَّ مَعَانِيَ كَلَامِ النَّاسِ عَلَيْهِ، هَذَا إذَا ذَكَرَ الْمُقْسَمَ بِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ، الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ حَتَّى ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ ثَانِيًا،.
فَأَمَّا إذَا ذَكَرَهُمَا جَمِيعًا ثُمَّ أَعَادَهُمَا فَإِنْ كَانَ بِحَرْفِ الْعَطْفِ بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَالرَّحْمَنِ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُمَا يَمِينَانِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسَيْنِ أَوْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ حَتَّى لَوْ فَعَلَ كَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ وَكَذَا لَوْ أَعَادَهُمَا بِدُونِ حَرْفِ الْعَطْفِ بِأَنْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَقَالَ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا أَعَادَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ مَعَ الِاسْمِ الثَّانِي عُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ يَمِينًا أُخْرَى إذْ لَوْ أَرَادَ الصِّفَةَ أَوْ التَّأْكِيدَ لَمَا أَعَادَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَوْ قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا.
وَقَالَ أَرَدْتُ بِالثَّانِي الْخَبَرَ عَنْ الْأَوَّلِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يُصَدَّقُ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَعَلِّقَ بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى هُوَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَفْظُهُ مُحْتَمِلٌ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ فَكَانَ مُصَدَّقًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فَإِنَّ الْمُعَلَّى رَوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ قَالَ: فِي رَجُلٍ حَلَفَ فِي مَقْعَدٍ وَاحِدٍ بِأَرْبَعَةِ أَيْمَانٍ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ بِأَقَلَّ فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: سَأَلْتُ أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِكُلِّ يَمِينٍ كَفَّارَةٌ، وَمَقْعَدٌ وَاحِدٌ وَمَقَاعِدُ مُخْتَلِفَةٌ وَاحِدٌ فَإِنْ قَالَ: عَنَى بِالثَّانِيَةِ الْأُولَى لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَيُصَدَّقُ فِي الْيَمِينِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْفِدْيَةِ وَكُلُّ يَمِينٍ قَالَ فِيهَا عَلَيَّ كَذَا وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْيَمِينِ الْقُرْبُ فِي لَفْظِ الْحَالِفِ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيَّ كَذَا وَصِيغَةُ هَذَا صِيغَةُ الْخَبَرِ فَإِذَا أَرَادَ بِالثَّانِيَةِ الْخَبَرَ عَنْ الْأَوَّلِ صَحَّ بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ فِي لَفْظِ الْحَالِفِ لِأَنَّ لَفْظَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ وَإِنَّمَا يَجِبُ بِحُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ وَكُلُّ يَمِينٍ مُنْفَرِدَةٍ بِالِاسْمِ فَيَنْفَرِدُ بِحُكْمِهَا فَلَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالثَّانِيَةِ الْأُولَى.
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ فِي رَجُلٍ: قَالَ: هُوَ يَهُودِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا وَهُوَ مَجُوسِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا وَهُوَ مُشْرِكٌ إنْ فَعَلَ كَذَا لِشَيْءٍ وَاحِدٍ قَالَ: عَلَيْهِ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ يَمِينٌ.
وَلَوْ قَالَ: هُوَ يَهُودِيٌّ هُوَ نَصْرَانِيٌّ هُوَ مَجُوسِيٌّ هُوَ مُشْرِكٌ فَهُوَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ وَهَذَا عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ إذَا ذَكَرَ الْمُقْسَمَ بِهِ مَعَ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ ثُمَّ أَعَادَهُ فَالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَإِذَا ذَكَرَ الْمُقْسَمَ بِهِ وَكَرَّرَهُ مِنْ غَيْرِ حَرْفِ الْعَطْفِ فَهُوَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا.